فصل: اعتراض بعض أهل الشقاق على الرسول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 مرجعه عليه السلام من الطائف وقسمة غنائم هوازن

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف عن الطائف على دحنا حتى نزل الجعرانة فيمن معه من المسلمين ومعه من هوازن سبي كثير، وقد قال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف‏:‏ يا رسول الله ادع عليهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم‏)‏‏)‏، قال‏:‏ ثم أتاه وفد هوازن بالجعرانة وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء ومن الإبل والشاء ما لا يدرى عدته‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عمرو بن شعيب وفي رواية يونس بن بكير عنه قال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا‏:‏

يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا منَّ الله عليك وقام خطيبهم زهير بن صرد، أبو صرد فقال‏:‏

يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك ولو أنا ملحنا لابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت رسول الله خير المكفولين، ثم أنشأ يقول‏:‏

أمنن علينا رسول الله في كرمٍ * فإنك المرء نرجوه وننتظر

أمنن على بيضةٍ قد عاقها قدر * ممزقٍ شملها في دهرها غير

أبقت لنا الدهر هتافاً على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 405‏)‏

إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلماً حين يختبر

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك تملؤه من مخضها الدرر

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزنيك ما تأتي وما تذر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنشكر آلاء وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا‏؟‏ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين؛ وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا فإني سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم‏)‏‏)‏‏.‏

فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال المهاجرون‏:‏ وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار‏:‏ وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الأقرع بن حابس‏:‏ أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة‏:‏ أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس السلمي‏:‏ أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم‏:‏ بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ يقول عباس بن مرداس لبني سليم‏:‏ وهنتموني‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أمسك منكم بحقه، فله بكل إنسان ستة فرائض، من أول فيء نصيبه‏)‏‏)‏، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم‏.‏

ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه الناس يقولون‏:‏ يا رسول الله اقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أيها الناس ردوا عليّ ردائي فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب بعير فأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أيها الناس والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال‏:‏ يا رسول الله أخذت هذه لأخيط بها برذعة بعير لي دبر‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما حقي منها فلك‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 406‏)‏

فقال الرجل‏:‏ أما إذا بلغ الأمر فيها فلا حاجة لي بها فرمى بها من يده‏.‏

وهذا السياق يقتضي أنه عليه السلام رد إليهم سبيهم قبل القسمة كما ذهب إليه محمد بن إسحاق بن يسار خلافاً لموسى بن عقبة وغيره‏.‏

وفي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ من طريق الليث بن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوا أن ترد إليهم أموالهم ونساؤهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال‏؟‏ وقد كنت استأنيت بكم‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم أموالهم إلا إحدى الطائفتين قالوا‏:‏ إنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول مال يفيء الله علينا فليفعل‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الناس‏:‏ قد طيبنا ذلك يا رسول الله‏.‏

فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم‏)‏‏)‏‏.‏

فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بأنهم قد طيبوا وأذنوا‏.‏

فهذا ما بلغنا عن سبي هوازن‏.‏

ولم يتعرض البخاري لمنع الأقرع وعيينة وقومهما بل سكت عن ذلك والمثبت مقدم على النافي فكيف الساكت‏.‏

وروى البخاري‏:‏ من حديث الزهري أخبرني عمر بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أخبره جبير بن مطعم أنه بينما هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفله من حنين، علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏

‏(‏‏(‏أعطوني ردائي فلو كان عدد هذه العضاة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البخاري‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني أبو وجزة يزيد بن عبيد السعدي‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى علي بن أبي طالب جارية يقال لها‏:‏ ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة، وأعطى عثمان بن عفان جارية يقال لها‏:‏ زينب بنت حيان بن عمرو بن حيان، وأعطى عمر جارية فوهبها من ابنه عبد الله‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني نافع عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ بعثت بها إلى أخوالي من بني جمح، ليصلحوا لي منها ويهيئوها حتى أطوف بالبيت، ثم آتيهم وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال‏:‏ فجئت من المسجد حين فرغت، فإذا الناس يشتدون، فقلت ما شأنكم‏؟‏

قالوا‏:‏ رد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا وأبناءنا‏.‏

قلت‏:‏ تلكم صاحبتكم في بني جمح فاذهبوا فخذوها فذهبوا إليها فأخذوها‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 407‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأما عيينة بن حصن فأخذ عجوزاً من عجائز هوازن، وقال حين أخذها‏:‏ أرى عجوزاً إني لأحسب لها في الحي نسباً وعسى أن يعظم نداؤها، فلما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم السبايا بست فرائض أبى أن يردها‏.‏

فقال له زهير بن صرد‏:‏ خذها عنك فوالله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد، ولا درها بماكد، إنك ما أخذتها والله بيضاء غريرة، ولا نصفا وثيرة، فردها بست فرائض‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بالجعرانة أصاب كل رجل أربع من الإبل، وأربعون شاة‏.‏

وقال سلمة عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر‏:‏ أن رجلاً ممن شهد حنين قال‏:‏ والله إني لأسير إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة لي، وفي رجلي نعل غليظة، إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوجعه، فقرع قدمي بالسوط وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أوجعتني فتأخر عني‏)‏‏)‏ فانصرفت‏.‏

فلما كان الغد إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسني‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمس‏.‏

قال‏:‏ فجئته وأنا أتوقع، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنك أصبت قدمي بالأمس فأوجعتني فقرعت قدمك بالسوط، فدعوتك لأعوضك منها‏)‏‏)‏ فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني‏.‏

والمقصود من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى هوازن سبيهم بعد القسمة، كما دل عليه السياق وغيره‏.‏

وظاهر سياق حديث عمرو بن شبيب الذي أورده محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى هوازن سبيهم قبل القسمة، ولهذا لما رد السبي وركب علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون له‏:‏ أقسم علينا فيئنا حتى اضطروه إلى سمرة‏.‏

فخطفت رداءه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عدد هذه العضاة نعماً لقسمته فيكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً‏)‏‏)‏‏.‏

كما رواه البخاري، عن جبير بن مطعم بنحوه‏.‏

وكأنهم خشوا أن يرد إلى هوازن أموالهم، كما رد إليهم نساءهم، وأطفالهم فسألوه قسمة ذلك، فقسمها عليه الصلاة والسلام بالجعرانة، كما أمره الله عز وجل وآثر أناساً في القسمة، وتألف أقواماً من رؤساء القبائل وأمرائهم‏.‏

فعتب عليه أناس من الأنصار حتى خطبهم، وبين لهم وجه الحكمة فيما فعله تطبيباً لقلوبهم، وتنقد بعض من لا يعلم من الجهلة والخوارج، كذي الخويصرة وأشباهه قبحه الله، كما سيأتي تفصيله وبيانه في الأحاديث الواردة في ذلك وبالله المستعان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 408‏)‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عارم، ثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي يقول‏:‏ ثنا السميط السدوسي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ فتحنا مكة ثم إنا غزونا حنيناً، فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت، فصفت الخيل، ثم صفت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت الغنم، ثم النعم‏.‏

قال‏:‏ ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد‏.‏

قال‏:‏ فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا‏.‏

قال‏:‏ فلم نلبث أن انكشف خيلنا، وفرت الأعراب، ومن نعلم من الناس‏.‏

قال‏:‏ فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا للمهاجرين، يا للمهاجرين، يا للأنصار ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال أنس‏:‏ هذا حديث عمته‏.‏

قال‏:‏ قلنا‏:‏ لبيك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأيم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة، ثم رجعنا إلى مكة‏.‏

قال‏:‏ فنزلنا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل المائة، ويعطي الرجل المائتين‏.‏

قال‏:‏ فتحدث الأنصار بينها، أما من قاتله فيعطيه، وأما من لم يقاتله فلا يعطيه‏؟‏ ‏!‏ فرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر بسراة المهاجرين والأنصار أن يدخلوا عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يدخلن علي إلا أنصاري - أو الأنصار -‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فدخلنا القبة حتى ملأناها، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار‏)‏‏)‏ أو كما قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما حديث أتاني ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ما أتاك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما حديث أتاني ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ما أتاك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون برسول الله حتى تدخلوه بيوتكم ‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ رضينا يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ فرضوا أو كما قال‏.‏

وهكذا رواه مسلم من حديث معتمر بن سليمان، وفيه من الغريب قوله‏:‏ أنهم كانوا يوم هوازن ستة آلاف، وإنما كانوا في اثني عشر ألفاً، وقوله‏:‏ إنهم حاصروا الطائف أربعين ليلة، وإنما حاصروها قريباً من شهر ودون العشرين ليلة، فالله أعلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا عبد الله بن محمد، ثنا هشام، ثنا معمر، عن الزهري، حدثني أنس بن مالك قال‏:‏ قال ناس من الأنصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً المائة من الإبل‏.‏

فقالوا‏:‏ يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 409‏)‏

قال أنس بن مالك‏:‏ فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة أدم، ولم يدع معهم غيرهم‏.‏

فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما حديث بلغني عنكم ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال فقهاء الأنصار‏:‏ أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما ناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا‏:‏ يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فإني لأعطي رجالاً حديثي عهد بالكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم‏؟‏ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله قد رضينا‏.‏

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فستجدون أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض‏)‏‏)‏‏.‏

قال أنس‏:‏ فلم يصبروا‏.‏

تفرد به البخاري من هذا الوجه‏.‏

ثم رواه البخاري ومسلم، من حديث ابن عوف، عن هشام بن زيد، عن جده أنس بن مالك قال‏:‏ لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لبيك يا رسول الله وسعديك، لبيك نحن بين يديك‏.‏

فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏ فانهزم المشركون، فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئاً، فقالوا فدعاهم فأدخلهم في قبته، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية للبخاري من هذا الوجه‏:‏ قال لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما‏.‏

التفت عن يمينه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك‏.‏

ثم التفت عن يساره فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، وهو على بغلة بيضاء، فنزل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏‏.‏

فانهزم المشركون، وأصاب يومئذ مغانم كثيرة، فقسم بين المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئاً‏.‏

فقالت الأنصار‏:‏ إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا، فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ما حديث بلغني ‏؟‏‏)‏‏)‏ فسكتوا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى بيوتكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

قال هشام‏:‏ قلت يا أبا حمزة وأنت شاهد ذلك‏؟‏

قال‏:‏ وأين أغيب عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 410‏)‏

ثم رواه البخاري ومسلم أيضاً، من حديث شعبة، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قريش حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه أيضاً من حديث شعبة، عن أبي التياح يزيد بن حميد، عن أنس بنحوه، وفيه فقالوا‏:‏ والله إن هذا لهو العجب، إن سيوفنا لتقطر من دمائهم والغنائم تقسم فيهم‏.‏ فخطبهم وذكر نحو ما تقدم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عفان، ثنا حماد، ثنا ثابت، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان، وعيينة، والأقرع، وسهيل بن عمرو، في آخرين يوم حنين فقالت الأنصار‏:‏ يا رسول الله سيوفنا تقطر من دمائهم، وهم يذهبون بالمغنم‏؟‏

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجمعهم في قبة له حتى فاضت فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏فيكم أحد من غيركم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لا إلا ابن أختنا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ابن أخت القوم منهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أقلتم كذا وكذا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنتم الشعار والناس الدثار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دياركم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الأنصار كرشي وعيبتي، لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعبهم، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ قال حماد‏:‏ أعطى مائة من الإبل، فسمى كل واحد من هؤلاء‏.‏

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط مسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي‏؟‏ ألم آتكم متفرقين فجمعكم الله بي، ألم آتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفلا تقولون جئتنا خائفاً فأمناك، وطريداً فأويناك، ومخذولاً فنصرناك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بل لله المن علينا ولرسوله‏.‏

وهذا إسناد ثلاثي على شرط الصحيحين، فهذا الحديث كالمتواتر عن أنس بن مالك‏.‏

وقد روي عن غيره من الصحابة‏.‏

قال البخاري‏:‏ ثنا موسى ابن إسماعيل، ثنا وهيب، ثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد بن عاصم، قال‏:‏ لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا في أنفسهم إذ لم يصيبهم ما أصاب الناس‏.‏

فخطبهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 411‏)‏

كلما قال شيئاً، قالوا‏:‏ الله ورسوله أمن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم‏؟‏ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث عمرو بن يحيى المازني به‏.‏

وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري، قال‏:‏ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم‏:‏ لقي والله رسول الله قومه‏.‏

فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏فيم ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأين أنت من ذلك يا سعد ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ما أنا إلا امرؤ من قومي‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج سعد فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة فجاء رجل من المهاجرين فأذن له فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال‏:‏ يا رسول الله قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم‏.‏

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا تجيبون يا معشر الأنصار ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وما نقول يا رسول الله‏؟‏ وبماذا نجيبك‏؟‏ المن لله ولرسوله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، جئتنا طريداً فأويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمناك، ومخذولاً فنصرناك‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ المن لله ولرسوله‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 412‏)‏

قال‏:‏ فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا‏:‏ رضينا بالله رباً ورسوله قسماً ثم انصرف وتفرقوا‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد‏:‏ من حديث ابن إسحاق، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه، وهو صحيح‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد، عن يحيى بن بكير، عن الفضل بن مرزوق، عن عطية بن سعد العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال رجل من الأنصار لأصحابه‏:‏ أما والله لقد كنت أحدثكم أنه لو استقامت الأمور قد آثر عليكم‏.‏

قال‏:‏ فردوا عليه رداً عنيفاً، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقال لهم أشياء لا أحفظها‏.‏

قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وكنتم لا تركبون الخيل‏)‏‏)‏ وكلما قال لهم شيئاً، قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله، ثم ذكر بقية الخطبة كما تقدم‏.‏

تفرد به أحمد أيضاً‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد منفرداً به من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد بنحوه‏.‏

ورواه أحمد أيضاً عن موسى بن عقبة، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر مختصراً‏.‏

وقال سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن جده رافع بن خديج‏:‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين مائة من الإبل، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى صفوان بن أمية مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى علقمة بن علاثة مائة، وأعطى مالك بن عوف مائة، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة، ولم يبلغ به أولئك، فأنشأ يقول‏:‏

أتجعل نهبي ونهب العبيد * بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما * ومن تخفض اليوم لا يرفع

وقد كنت في الحرب ذا تدري * فلم أعط شيئاً ولم أمنع

قال‏:‏ فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة‏.‏

رواه مسلم من حديث ابن عيينة بنحوه، وهذا لفظ البيهقي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 413‏)‏

وفي رواية ذكرها موسى بن عقبة، وعروة بن الزبير، وابن إسحاق، فقال‏:‏

كانت نهاباً تلافيتها * بكري على المهر في الأجرع

وإيقاظي الحي أن يرقدوا * إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح نهبي ونهب العبد * بين عيينة والأقرع

وقد كنت في الحرب ذا تدرئ * فلم أعط شيئاً ولم أمنع

إلا أفايل أعطيتها * عديد قوائمها الأربع

وما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع

قال عروة وموسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت القائل أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ ما هكذا قال يا رسول الله، ولكن والله ما كنت بشاعر، وما ينبغي لك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف قال ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏ فأنشده أبو بكر‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هما سواء ما يضرك بأيهما بدأت‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اقطعوا عني لسانه‏)‏‏)‏ فخشي بعض الناس أن يكون أراد المثلة به، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم العطية‏.‏

قال‏:‏ وعبيد فرسه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن العلاء، ثنا أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال‏:‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة، بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال‏:‏ ألا تنجز لي ما وعدتني‏؟‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشر‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ قد أكثرت علي من أبشر ‏!‏

فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏رد البشرى فاقبلا أنتما‏)‏‏)‏ ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه وفيه ومج فيه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا‏)‏‏)‏ فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة‏.‏ هكذا رواه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير، ثنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته‏.‏

قال‏:‏ مر لي من مال الله الذي عندك‏.‏

فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق الذين أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مائة من الإبل وهم‏:‏

أبو سفيان صخر بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلدة أخو بني عبد الدار، وعلقمة بن علاثة، والعلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة، والحارث بن هشام، وجبير بن مطعم، ومالك بن عوف النصري، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وعيينة ابن حصن، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 414‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي‏:‏ أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه‏:‏ يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري ‏؟‏‏!‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما والذي نفس محمد بيده، لجعيل خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق من أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون المائة ممن يطول ذكره‏.‏

وفي الحديث الصحيح عن صفوان بن أمية أنه قال‏:‏ ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إلي، حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه‏.‏

 قدوم مالك بن عوف النصري على الرسول

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن وسألهم عن مالك بن عوف ما فعل‏؟‏

فقالوا‏:‏ هو بالطائف مع ثقيف‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخبروه أنه إن أتاني مسلماً رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل‏)‏‏)‏‏.‏

فلما بلغ ذلك مالكاً انسل من ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة - أو بمكة - فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله، ولما أعطاه مائة فقال مالك بن عوف رضي الله عنه‏:‏

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عردت أنيابها * بالسمهري وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله * وسط الهباءة خادر في مرصد

قال‏:‏ واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرج إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 415‏)‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير بن حازم، ثنا الحسن، حدثني عمرو بن تغلب قال‏:‏ أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم وأكِل قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب‏)‏‏)‏‏.‏

قال عمرو‏:‏ فما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم‏.‏

زاد أبو عاصم عن جرير‏:‏ سمعت الحسن، ثنا عمرو بن تغلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال - أو سبي - فقسمه بهذا‏.‏

وفي رواية للبخاري قال‏:‏ أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال - أو بشيء - فأعطى رجالاً وترك رجالاً فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما بعد‏)‏‏)‏ فذكر مثله سواء‏.‏

تفرد به البخاري‏.‏

وقد ذكر ابن هشام أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال فيما كان من أمر الأنصار وتأخرهم عن الغنيمة‏:‏

ذر الهموم فماء العين منحدر * سحاً إذا حفلته عبرة درر

وجداً بشماء إذ شماء بهكنة * هيفاء لا ذنن فيها ولا خور

دع عنك شماء إذ كانت مودتها * نزراً وشر وصال الواصل النزر

وائت الرسول وقل يا خير مؤتمن * للمؤمنين إذ ما عدد البشر

علام تدعي سليم وهي نازحة * قدام قوم هموا آووا وهم نصروا

سماهم الله أنصاراً بنصرهم * دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترضوا * للنائبات وما خانوا وما ضجروا

والناس إلب علينا فيك ليس لنا * إلا السيوف وأطراف القنا وزر

تجالد الناس لا نبقي على أحد * ولا نضيع ما توحي به السور

ولا تهز جناة الحرب نادينا * ونحن حين تلظى نارها سعر

كما رددنا ببدر دون ما طلبوا * أهل النفاق وفينا ينزل الظفر

ونحن جندك يوم النعف من أحد * إذ حزبت بطراً أحزابها مضر

فما ونينا وما خمنا وما خبروا * منا عثاراً وكل الناس قد عثروا

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 415‏)‏

 اعتراض بعض أهل الشقاق على الرسول

قال البخاري‏:‏ ثنا قبيصة، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال‏:‏ لما قسم النبي قسمة حنين قال رجل من الأنصار‏:‏ ما أراد بها وجه الله‏.‏

قال‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتغير وجهه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث الأعمش به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال‏:‏ لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناساً، أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناساً، فقال رجل‏:‏ ما أريد بهذه القسمة وجه الله‏.‏

فقلت‏:‏ لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه من حديث منصور، عن المعتمر به‏.‏

وفي رواية للبخاري‏:‏ فقال رجل‏:‏ والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله‏.‏

فقلت‏:‏ والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ‏؟‏‏!‏ رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن مقسم أبي القاسم، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال‏:‏ خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي، حتى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو يطوف بالبيت معلقاً نعله بيده، فقلنا له‏:‏ هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كلمه التميمي يوم حنين ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه وهو يعطي الناس فقال له‏:‏ يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أجل فكيف رأيت ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لم أرك عدلت‏.‏

قال‏:‏ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ألا نقتله ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء، ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس، فقال‏:‏ يا محمد اعدل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل‏؟‏ لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 417‏)‏

ورواه مسلم‏:‏ عن محمد بن رمح، عن الليث‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا أبو عامر، ثنا قرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مغانم حنين إذ قام إليه رجل فقال‏:‏ اعدل‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد شقيت إذ لم أعدل‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري‏:‏ عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة بن خالد السدوسي به‏.‏

وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد قال‏:‏ بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، فقال‏:‏ يا رسول الله اعدل‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ويلك ومن يعدل إن لم أعدل، لقد خبت وخسرت إذ لم أعدل فمن يعدل ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ يا رسول الله ايذن لي فيه فأضرب عنقه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو سعيد‏:‏ فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت‏.‏

ورواه مسلم أيضاً من حديث القاسم بن الفضل، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد به نحوه‏.‏

 مجيء أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بالجعرانة

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بعض بني سعد بن بكر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم هوازن‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قدرتم على نجاد - رجل من بني سعد بن بكر - فلا يفلتنكم‏)‏‏)‏‏.‏

وكان قد أحدث حدثاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 418‏)‏

فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة‏.‏

قال‏:‏ فعنفوا عليها في السوق، فقالت للمسلمين‏:‏ تعلمون والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة‏؟‏ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني يزيد بن عبيد السعدي - هو أبو وجزة - قال‏:‏ فلما انتهى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ يا رسول الله إني أختك من الرضاعة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما علامة ذلك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك‏.‏

قال‏:‏ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردها إلى قومها، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاماً يقال له مكحول وجارية، فزوجت أحدهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية‏.‏

وروى البيهقي‏:‏ من حديث الحكم بن عبد الملك، عن قتادة قال‏:‏ لما كان يوم فتح هوازن جاءت جارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله أنا أختك، أنا شيماء بنت الحارث‏.‏

فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏إن تكوني صادقة فإن بك مني أثر لا يبلى‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكشفت عن عضدها فقالت‏:‏ نعم يا رسول الله حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضة‏.‏

قال‏:‏ فبسط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏سلي تعطي، واشفعي تشفعي‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبا أبو نصر بن قتادة، أنبا عمرو بن إسماعيل بن عبد السلمي، ثنا مسلم، ثنا أبو عاصم، ثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان، أخبرني عمي عمارة بن ثوبان‏:‏ أن أبا الطفيل أخبره قال‏:‏ كنت غلاماً أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم نعماً بالجعرانة، قال‏:‏ فجاءته امرأة فبسط لها رداءه، فقلت‏:‏ من هذه ‏؟‏

قالوا‏:‏ أمه التي أرضعته‏.‏

هذا حديث غريب، ولعله يريد أخته وقد كانت تحضنه مع أمها حليمة السعدية، وإن كان محفوظاً فقد عمرت حليمة دهراً، فإن من وقت أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقت الجعرانة أزيد من ستين سنة، وأقل ما كان عمرها حين أرضعته صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة، ثم الله أعلم بما عاشت بعد ذلك‏.‏

وقد ورد حديث مرسل فيه‏:‏ أن أبويه من الرضاعة قدما عليه والله أعلم بصحته‏.‏

قال أبو داود في ‏(‏المراسيل‏)‏‏:‏ ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، ثنا ابن وهب، ثنا عمرو بن الحارث‏:‏ أن عمر بن السائب حدثه‏:‏

أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً فجاءه أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 419‏)‏

وقد تقدم أن هوازن بكمالها متوالية برضاعته من بني سعد بن بكر - وهم شرذمة من هوازن - فقال خطيبهم زهير بن صرد‏:‏ يا رسول الله إنما في الحظائر أمهاتك وخالاتك وحواضنك، فأمنُن علينا منَّ الله عليك، وقال فيما قال‏:‏

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم، فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديماً وحديثاً، خصوصاً وعموماً‏.‏

وقد ذكر الواقدي، عن إبراهيم بن محمد بن شرحبيل، عن أبيه قال‏:‏ كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول‏:‏ الحمد لله الذي منَّ علينا بالإسلام، ومنَّ علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الأخوة وبنو العم‏.‏

ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم على دينهم بعد، قال‏:‏ ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك، فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنضير ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ لبيك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأقبلت إليه سريعاً‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم زده ثباتاً‏)‏‏)‏

قال النضير‏:‏ فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الحمد لله الذي هداه‏)‏‏)‏‏.‏

 عمرة الجعرانة في ذي القعدة

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا بهز وعبد الصمد المعنى قالا‏:‏ ثنا همام بن يحيى، ثنا قتادة قال‏:‏ سألت أنس بن مالك قلت‏:‏ كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

قال‏:‏ حجة واحدة، واعتمر أربع مرات‏.‏

عمرته زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته‏.‏

ورواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي من طرق عن همام بن يحيى به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني العطار - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر؛ عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 420‏)‏

ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن عمرو بن دينار به‏.‏ وحسنه والترمذي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ثنا حجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - قال‏:‏ اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر‏.‏

غريب من هذا الوجه‏.‏ وهذه الثلاث عمر اللاتي وقعن في ذي القعدة ما عدا عمرته مع حجته فإنها وقعت في ذي الحجة مع الحجة، وإن أراد ابتداء الإحرام بهن في ذي القعدة فلعله لم يرد عمرة الحديبية لأنه صد عنها، ولم يفعلها، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان نافع ومولاه ابن عمر ينكران أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة بالكلية، وذلك فيما قال البخاري‏:‏ ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية فأمره أن يفي به‏.‏

قال‏:‏ وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين، فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال‏:‏ فمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبي حنين فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر‏:‏ يا عبد الله انظر ما هذا ‏؟‏

قال‏:‏ منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبي‏.‏

قال‏:‏ اذهب فأرسل الجاريتين‏.‏

قال نافع‏:‏ ولم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، ولو اعتمر لم يخف على عبد الله‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر به‏.‏

ورواه مسلم أيضاً، عن أحمد بن عبدة الضبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال‏:‏ ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فقال‏:‏ لم يعتمر منها‏.‏

وهذا غريب جداً عن ابن عمرو عن مولاه نافع في إنكارهما عمرة الجعرانة، وقد أطبق النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح، والسنن، والمسانيد، وذكر ذلك أصحاب المغازي والسنن كلهم‏.‏

وهذا أيضاً كما ثبت في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح، عن عروة، عن عائشة أنها أنكرت على ابن عمر قوله‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، وقالت‏:‏ يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا نمير، ثنا الأعمش، عن مجاهد قال‏:‏ سأل عروة بن الزبير ابن عمر في أي شهر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

قال‏:‏ في رجب، فسمعتنا عائشة فسألها ابن الزبير وأخبرها بقول ابن عمر، فقالت‏:‏ يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وقد شهدها، وما اعتمر قط إلا في ذي القعدة‏.‏

وأخرجه البخاري، ومسلم من حديث جرير، عن منصور عن مجاهد به نحوه‏.‏

ورواه أبو داود، والنسائي أيضاً من حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن مجاهد‏:‏ سئل ابن عمر كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

فقال‏:‏ مرتين، فقالت عائشة‏:‏ لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً سوى التي قرنها بحجة الوداع‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى بن آدم، ثنا مفضل، عن منصور، عن مجاهد قال‏:‏ دخلت مع عروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة، وأناس يصلون الضحى، فقال عروة‏:‏ أبا عبد الرحمن ما هذه الصلاة ‏؟‏

قال‏:‏ بدعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 421‏)‏

فقال له عروة‏:‏ أبا عبد الرحمن كم اعتمر رسول الله ‏؟‏

فقال‏:‏ أربعاً إحداهن في رجب‏.‏

قال‏:‏ وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال لها عروة‏:‏ إن أبا عبد الرحمن يزعم أن رسول الله اعتمر أربعاً إحداهن في رجب‏.‏

فقالت‏:‏ يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط‏.‏

وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن الحسن بن موسى، عن شيبان، عن منصور‏.‏

وقال‏:‏ حسن صحيح غريب‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا روح، ثنا ابن جريج، أخبرني مزاحم بن أبي مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن مخرش الكعبي‏:‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلاً حتى أمسى معتمراً، فدخل مكة ليلاً يقضي عمرته، ثم خرج من تحت ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق - طريق المدينة - بسرف‏.‏

قال مخرش‏:‏ فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس‏.‏

ورواه الإمام أحمد‏:‏ عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج كذلك، وهو من أفراده‏.‏

والمقصود أن عمرة الجعرانة ثابتة بالنقل الصحيح الذي لا يمكن منعه ولا دفعه، ومن نفاها لا حجة معه في مقابلة من أثبتها، والله أعلم‏.‏

ثم هم كالمجمعين على أنها كانت في ذي القعدة بعد غزوة الطائف، وقسم غنائم حنين‏.‏

وما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ‏(‏معجمه الكبير‏)‏ قائلاً‏:‏ حدثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا محمد بن الحسن الأسدي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عمير - مولى عبد الله بن عباس - عن ابن عباس قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل بالجعرانة فقسم بها الغنائم، ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال، فإنه غريب جداً، وفي إسناده نظر، والله أعلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا إسماعيل، ثنا ابن جريج، أخبرني عطاء بن صفوان بن يعلى بن أمية، أخبره أن يعلى كان يقول‏:‏ ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه‏.‏

قال‏:‏ فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، قال‏:‏ فأشار عمر بن الخطاب إلى يعلى بيده أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سرى عنه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أين الذي يسألني عن العمرة آنفاً ‏؟‏‏)‏‏)‏

فالتمس الرجل فأتي به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث ابن جريج، وأخرجاه من وجه آخر عن عطاء كلاهما، عن صفوان بن يعلى بن أمية به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو أسامة، أنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء من أعلى مكة، ودخل في العمرة من كدى‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا موسى أبو سلمة، ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثاً ومشوا أربعاً، وجعلوا أرديتهم تحت أباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى‏.‏

تفرد به أبو داود‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 422‏)‏

ورواه أيضاً، وابن ماجه من حديث ابن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس مختصراً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاووس‏:‏ أن ابن عباس أخبره، أن معاوية أخبره قال‏:‏ قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص - أو قال‏:‏ رأيته يقصر عنه بمشقص عند المروة -

وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج به‏.‏

ورواه مسلم أيضاً‏:‏ من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاووس، عن ابن عباس، عن معاوية به‏.‏

ورواه أبو داود، والنسائي أيضاً‏:‏ من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه به‏.‏

وقال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثني عمرو بن محمد الناقد، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عباس، عن معاوية قال‏:‏ قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة‏.‏

والمقصود أن هذا إنما يتوجه أن يكون في عمرة الجعرانة، وذلك أن عمرة الحديبية لم يدخل إلى مكة فيها، بل صد عنها كما تقدم بيانه، وأما عمرة القضاء فلم يكن أبو سفيان أسلم، ولم يبق بمكة من أهلها أحد حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خرجوا منها وتغيبوا عنها مدة مقامه عليه السلام بها تلك الثلاثة الأيام‏.‏

وعمرته التي كانت مع حجته لم يتحلل منها بالاتفاق، فتعين أن هذا التقصير الذي تعاطاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة إنما كان في عمرة الجعرانة كما قلنا، والله تعالى أعلم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق رحمه الله‏:‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمراً، وأمر ببقاء الفيء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران‏.‏

قلت‏:‏ الظاهر أنه عليه السلام إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من الأعراب فيما بين مكة والمدينة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن‏.‏

وذكر عروة وموسى بن عقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف معاذاً مع عتاب بمكة قبل خروجه إلى هوازن، ثم خلفهما بها حين رجع إلى المدينة‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ وبلغني عن زيد بن أسلم أنه قال‏:‏ لما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة، رزقه كل يوم درهماً، فقام فخطب الناس فقال‏:‏ أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهماً كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، وقدم المدينة في بقية ذي القعدة، أو في أول ذي الحجة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 423‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ قدمها لست بقين من ذي القعدة فيما قال أبو عمرو المديني‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحج الناس ذلك العام على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهي سنة ثمان‏.‏

قال‏:‏ وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة إلى رمضان من سنة تسع‏.‏

 إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى وذكر قصيدته بانت سعاد

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من منصرفه عن الطائف، كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه لأبويه كعب بن زهير، يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقي من شعراء قريش؛ ابن الزبعري، وهبيرة بن أبي وهب، هربوا في كل وجه‏.‏

فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض‏.‏

وكان كعب قد قال‏:‏

ألا بلغا عني بجيراً رسالة * فويحك فيما قلت ويحك هل لكا

فبين لنا إن كنت لست بفاعل * على أي شيء غير ذلك دلكا

على خلق لم ألف يوماً أباً له * عليه وما تلقى عليه أباً لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل أما عثرت لعالكا

سقاك بها المأمون كأساً روية * فأنهلك المأمون منها وعلَّكا

قال ابن هشام‏:‏ وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر‏:‏

من مبلع عني بجيراً رسالة * فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا

شربت مع المأمون كأساً روية * فأنهلك المأمون منها وعلكا

وخالفت أسباب الهدى واتبعته * على أي شيء ويب غيرك دلكا

على خلق لم تلف أماً ولا أباً * عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل أما عثرت لعاً لكا

قال ابن إسحاق‏:‏ وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجير أكره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمع سقاك بها المأمون‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق وإنه لكذوب، أنا المأمون‏)‏‏)‏‏.‏

ولما سمع على خلق لم تلف أماً ولا أباً عليه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 424‏)‏

قال ثم كتب بجير إلى كعب يقول له‏:‏

من مبلغ كعباً فهل لك في التي * تلوم عليها باطلاً وهي أحزم

إلى الله لا العزى ولا اللات وحده * فتنجو إذا كان النجاء وتسلم

لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت * من الناس إلا طاهر القلب مسلم

فدين زهير وهو لا شيء دينه * ودين أبي سلمى عليَّ محرم

قال‏:‏ فلما بلغ كعب الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه، وقالوا‏:‏ هو مقتول، فلما لم يجد من شيء بداً قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها خوفه، وإرجاف الوشاة به من عدوه‏.‏

ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر لي، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشار له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ هذا رسول الله، فقم إليه فاستأمنه‏.‏

فذُكر لي‏:‏ أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليه، ووضع يده في يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، فقال‏:‏ يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً فهل أنت قابل منه إن جئتك به‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ إذاً أنا يا رسول الله كعب بن زهير‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه‏:‏ وثب عليه رجل من الأنصار فقال‏:‏ يا رسول الله، دعني وعدو الله أضرب عنقه‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏دعه عنك، فإنه جاء تائباً نازعاً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فغضب كعب بن زهير على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال في قصيدته التي قال حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا * إلا أغن غضيض الطرف مكحول

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة * لا يشتكي قصر منها ولا طول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت * كأنه منهل بالراح معلول

شجت بذي شيم من ماء محنية * صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 425‏)‏

تنفي الرياح الفدى عنه وأمرعه * من صوب غادية بيض يعاليل

فيا لها خلة لو أنها صدقت * بوعدها أو لو آن النصح مقبول

لكنها خلة قد سيط من دمها * فجع وولع وإحلاف وتبديل

فما تدوم على حال تكون بها * كما تلون في أثوابها الغول

وما تمسك بالعهد الذي زعمت * إلا كما يمسك الماء الغرابيل

فلا يغرنك ما منت وما وعدت * إن الأماني الأحلام تضليل

كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً * وما مواعيدها إلا الأباطيل

أرجو وآمل أن تدنو مودتها * وما لهن أخال الدهر تعجيل

أمست سعاد عرضتها بأرض لا تبلغها * إلا العتاق النجيبات المراسيل

ولن يبلغها إلا عذافرة * فيها على الأبن إرقال وتبغيل

من كل نضاحة الذفري إذا عرقت * عرضتها طامس الأعلام مجهول

ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق * إذا توقدت الحزان والميل

ضخم مقلدها فعمَّ مقيدها * في خلقها عن بنات الفحل تفضيل

حرف أخوها أبوها من مهجنة * وعمها خالها قوداء شمليل

يمشى القراد عليها ثم يزلقه * منها لبان وأقراب زهاليل

عيرانةٌ قذفت بالنحص عن عرض * مرفقها عن بنات الزور مفتول

قنواءٌ في حربتيها للبصير بها * عتق مبين وفي الخدين تسهيل

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 426‏)‏

كأنما فات عينيها ومذبحها * من خطمها ومن اللحيين برطيل

تمر مثل عسيب النخل ذا خصل * في غادر لم تخونه الأحاليل

تهوي على يسرات وهي لاهية * ذوابل وقعهن الأرض تحليل

يوماً تظل به الحرباء مصطخداً * كأن ضاحية بالشمس محلول

وقال للقوم حاديهم وقد جعلت * ورق الجنادب يركضن الحصا قيلوا

أوبٌ بذي فاقدٍ شمطاء معولة * قامت فجاء بها نكر مثاكيل

نواحةٌ رخوة الضبعين ليس لها * لما نعى بكرها الناعون معقول

تفري اللبان بكفيها ومدرعها * مشقق عن تراقيها رعابيل

تسعى الغواة جنابيها وقولهم * إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول

وقال كل صديق كنت أمله * لا ألهينك إني عنك مشغول

فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم * فكل ما قدر الرحمن مفعول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته * يوماً على آلة حدباء محمول

نبئتُ أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة * القرآن فيه مواعيظ وتفصيل

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 427‏)‏

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم * أذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل

لقد أقوم مقاماً لو يقوم به * أرى وأسمع ما قد يسمع الفيل

لظل يرعد من وجد موارده * من الرسول بإذن الله تنزيل

حتى وضعت يميني ما أنازعها * في كف ذي نقمات قوله القيل

فلهو أخوف عندي إذ أكلمه * وقيل إنك منسوب ومسئول

من ضيغم بضراء الأرض مخدرة * في بطن عثر غيل ذرنه غيل

يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما * لحم من الناس معفور خراديل

إذا يساور قرناً لا يحل له * أن يترك القرن إلا وهو مغلول

منه تظل حمير الوحش نافرة * ولا تمشي بواديه الأراجيل

ولا يزال بواديه أخو ثقة * مضرج البر والدرسان مأكول

إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول

في عصبة من قريش قال قائلهم * ببطن مكة لما أسلموا زولوا

زالوا فما زال أنكاس ولا كشف * عند اللقاء ولا ميل معازيل

يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم * ضرب إذا عرد السود التنابيل

شم العرانين أبطال لبوسهم * من نسج داود في الهيجا سرابيل

بيض سوابغ قد شكت لها حلق * كأنها حلق القفعاء مجدول

ليسوا معاريج إن نالت رماحهم * قوما وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا

لا يقع الطعن إلا في نحورهم * ولا لهم عن حياض الموت تهليل

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 428‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ هكذا أورد محمد بن إسحاق هذه القصيدة ولم يذكر لها إسناداً‏.‏

وقد رواها الحافظ البيهقي في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ بإسناد متصل فقال‏:‏ أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد الأسدي بهذان، ثنا إبراهيم بن الحسين، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سلمى، عن أبيه، عن جده قال‏:‏

خرج كعب وبجير ابنا زهير، حتى أتيا أبرق العزاف فقال بجير لكعب‏:‏ اثبت في هذا المكان حتى آتي هذا الرجل - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأسمع ما يقول، فثبت كعب وخرج بجير، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم فبلغ ذلك كعباً فقال‏:‏

ألا أبلغا عني بجيراً رسالة * على أي شيء ويب غيرك دلكا

على خلق لم تلف أماً ولا أباً * عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا

سقاك أبو بكر بكأس روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا

فلما بلغت الأبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من لقي كعباً فليقتله‏)‏‏)‏‏.‏

فكتب بذلك بجير إلى أخيه، وذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، ويقول له‏:‏ النجاء وما أراك تنفلت‏.‏

ثم كتب إليه بعد ذلك‏:‏ أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله إلا قبل ذلك منه، وأسقط ما كان قبل ذلك، فإذا جاءك كتابي هذا، فأسلم وأقبل‏.‏

قال‏:‏ فأسلم كعب وقال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كالمائدة بين القوم، و القوم متحلقون معه حلقة خلف حلقة، يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم‏.‏

قال كعب‏:‏ فأنخت راحلتي بباب المسجد، ثم دخلت المسجد فعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة، حتى جلست إليه فأسلمت، وقلت‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، الأمان يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن أنت ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ كعب بن زهير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الذي يقول‏)‏‏)‏‏.‏

ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف قال يا أبا بكر ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأنشده أبو بكر‏:‏

سقاك بها المأمون كأساً روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا

قال‏:‏ يا رسول الله ما قلت هكذا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فكيف قلت ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 429‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏

سقاك بها المأمون كأساً روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏مأمون والله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أنشده القصيدة كلها حتى أتى على آخرها، وهي هذه القصيدة‏:‏

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يغد مكبول

وقد تقدم ما ذكرناه من الرمز لما اختلف فيه إنشاد ابن إسحاق والبيهقي رحمهما الله عز وجل‏.‏

وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب ‏(‏الاستيعاب‏)‏ أن كعباً لما انتهى إلى قوله‏:‏

إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول

نبئتُ أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول

قال‏:‏ فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من معه أن اسمعوا‏.‏

وقد ذكر ذلك قبله موسى بن عقبة في مغازيه، ولله الحمد والمنة‏.‏

قلت‏:‏ ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه بردته حين أنشده القصيدة، وقد نظر ذلك الصرصري في بعض مدائحه‏.‏

وهكذا ذكر ذلك الحافظ أبو الحسن بن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏، قال‏:‏ وهي البردة التي عند الخلفاء‏.‏

قلت‏:‏ وهذا من الأمور المشهورة جداً، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه، فالله أعلم‏.‏

وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما قال‏:‏ بانت سعاد‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن سعاد ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ زوجتي يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم تبن، ولكن لم يصح ذلك‏)‏‏)‏ وكأنه على ذلك توهم أن بإسلامه تبين امرأته، والظاهر أنه إنما أراد البينونة الحسية لا الحكمية، والله تعالى أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال عاصم بن عمر بن قتادة‏:‏ فلما قال كعب - يعني في قصيدته - إذا عرد السود التنابيل، وإنما يريدنا معشر الأنصار، لما كان صاحبنا صنع به ما صنع، وخص المهاجرين من قريش بمدحته، غضبت عليه الأنصار‏.‏

فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار، ويذكر بلاءهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضعهم من اليمن‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 430‏)‏

من سره كرم الحياة فلا يزل * في مقنب من صالحي الأنصار

ورثوا المكارم كابراً عن كابر * إن الخيار هموا بنوا الأخيار

المكرهين السمهري بأذرع * كسوالف الهندي غير قصار

والناظرين بأعين محمرة * كالجمر غير كليلة الأبصار

والبائعين نفوسهم لنبيهم * للموت يوم تعانق وكرار

والقائدين الناس عن أديانهم * بالمشرفي وبالقنال الخطار

يتطهرون يرونه نسكاً لهم * بدماء من علقوا من الكفار

دربوا كما دربت بطون خيفة * غلب الرقاب من الأسود ضواري

وإذا حللت لينعوك إليهم * أصبحت عند معاقل الأعفار

ضربوا علياً يوم بدر ضربةً * دانت لوقعتها جميع نزار

لو يعلم الأقوام علمي كله * فيهم لصدقني الذين أُماري

قوم إذا خوت النجوم فإنهم * للطارقين النازلين مقاري

قال ابن هشام‏:‏ ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أنشده بانت سعاد‏:‏ ‏(‏‏(‏لولا ذكرت الأنصار بخير فإنهم لذلك أهل‏)‏‏)‏‏.‏

فقال كعب هذه الأبيات وهي في قصيدة له‏.‏

قال‏:‏ وبلغني عن علي بن زيد بن جدعان‏:‏ أن كعب بن زهير أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد‏:‏ بانت سعاد فقلبي اليوم متبول‏.‏

وقد رواه الحاقظ البيهقي بإسناده المتقدم إلى إبراهيم بن المنذر الحزامي‏:‏ حدثني معن بن عيسى، حدثني محمد بن عبد الرحمن، الأفطس عن ابن جدعان فذكره، وهو مرسل‏.‏

وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في ‏(‏كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب‏)‏ بعد ما أورد طرفاً من ترجمة كعب بن زهير إلى أن قال‏:‏ وقد كان كعب بن زهير شاعراً مجوداً كثير الشعر، مقدماً في طبقته هو وأخو بجير، وكعب أشعرهما، وأبوهما زهير فوقهما، ومما يستجاد من شعر كعب بن زهير قوله‏:‏

لو كنت أعجب من شيء لأعجبني * سعي الفتى وهو مخبوء له القدر

يسعى الفتى لأمور ليس يدركها * فالنفس واحدة والهم منتشر

والمرء ما عاش ممدود له أمل * لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 431‏)‏

ثم أورد له ابن عبد البر أشعاراً كثيرة يطول ذكرها، ولم يؤرخ وفاته، وكذا لم يؤرخها أبو الحسن بن الأثير في كتاب ‏(‏الغابة في معرفة الصحابة‏)‏ ولكن حكى أن أباه توفي قبل المبعث بسنة، فالله أعلم‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ ومما أجاد فيه كعب بن زهير قوله يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

تجري به الناقة الأدماء معتجراً * بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم

ففي عطافيه أو أثناء بردته * ما يعلم الله من دين ومن كرم

 الحوادث المشهورة في سنة ثمان والوفيات

فكان في جمادى منها وقعة مؤتة، وفي رمضان غزوة فتح مكة، وبعدها في شوال غزوة هوازن بحنين، وبعده كان حصار الطائف‏.‏

ثم كانت عمرة الجعرانة في ذي القعدة، ثم عاد إلى المدينة في بقية السنة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لليالي بقين من ذي الحجة في سفرته هذه‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر، وعمرو ابني الجلندي من الأزد، وأخذت الجزية من مجوس بلدهما ومن حولها من الأعراب‏.‏

قال‏:‏ وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في ذي القعدة، فاستعاذت منه عليه السلام ففارقها، وقيل بل خيرها فاختارت الدنيا ففارقها‏.‏

قال‏:‏ وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية، فاشتدت غيره أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولداً ذكراً، وكانت قابلتها فيه سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فخرجت إلى أبي رافع فأخبرته، فذهب فبشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه مملوكاً، ودفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم برة بنت المنذر بن أسيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف بن مبذول‏.‏

وكانت فيها وفاة من ذكرنا من الشهداء في هذه الوقائع، وقد قدمنا هدم خالد بن الوليد البيت الذي كانت العزى تعبد فيه بنخلة بين مكة والطائف، وذلك لخمس بقين من رمضان منها‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها كان هدم سواع الذي كانت تعبده هذيل برهاط، هدمه عمرو بن العاص رضي الله عنه، ولم يجد في خزانته شيئاً‏.‏

وفيها هدم مناة بالمشلل؛ وكانت الأنصار أوسها وخزرجها يعظمونه، هدمه سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه‏.‏

وقد ذكرنا من هذا فصلاً مفيداً مبسوطاً في تفسير سورة النجم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر البخاري بعد فتح مكة قصة تخريب خثعم البيت الذي كانت تعبوه، ويسمونه الكعبة اليمانية مضاهية للكعبة التي بمكة، ويسمون التي بمكة الكعبة الشامية، ولتلك - الكعبة اليمانية -‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 432‏)‏

فقال البخاري‏:‏ ثنا يوسف بن موسى، ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا تريحني من ذي الخلصة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ بلى‏.‏ فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده في صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما وقعت عن فرس بعد‏.‏

قال‏:‏ وكان ذو الخلصة بيتاً باليمن لخثعم وبجيلة، فيه نصب تعبد يقال له‏:‏ الكعبة اليمانية‏.‏

قال‏:‏ فأتاها فحرقها في النار وكسرها‏.‏

قال‏:‏ فلما قدم جرير اليمن، كان بها رجل يستقسم بالأزلام، فقيل له‏:‏ إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ها هنا، فإن قدر عليك ضرب عنقك‏.‏

قال‏:‏ فبينما هو يضرب بها، إذ وقف عليه جرير فقال‏:‏ لتكسرنها وتشهد أن لا إله إلا الله، أو لأضربن عنقك‏؟‏ فكسرها وشهد‏.‏

ثم بعث جرير رجلاً من أحمس يكنى أرطأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك‏.‏

قال‏:‏ فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب‏.‏

قال‏:‏ فبارك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات‏.‏

ورواه مسلم من طرق متعددة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي بنحوه‏.‏

تم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات الجزء الرابع من تاريخ البداية والنهاية لابن كثير، ويتلوه الجزء الخامس، وأوله ذكر غزوة تبوك في رجب منها‏.‏